السيطرة الناعمة… والإقصاء بأدب!
بقلم: الأستاذة أنيسة الوردي
في مغرب اليوم، لا تُقال الحقائق بصوت مرتفع، بل تُهمس في الكواليس، حيث يُعاد رسم المشهد السياسي وفق قواعد غير مكتوبة. هناك من يتحدثون كثيرًا دون أن يقولوا شيئًا، وهناك من يلتزمون الصمت، لكن حضورهم وحده يُربك الحسابات. وبين هؤلاء وأولئك، فئة تعمل بصمت لإعادة ترتيب الأوراق، تمهيدًا لـ”مونديال سياسي” جديد، حيث لا مكان لمن يخرج عن النص، ولا مجال لمن يُربك السيناريو المرسوم سلفًا.
ليس ضروريًا أن تكون السلطة بيد صانع القرار الحكومي، فالتأثير يمكن أن يكون أكثر فاعلية حين يُمارس من وراء الستار. الضغط هنا ليس صاخبًا، لكنه حاسم؛ لا يُقال صراحة إنك غير مرغوب فيك، بل يُمهَّد الطريق أمام من ينسجم مع الرؤية السائدة، بينما يُدفع بالمُزعجين إلى هامش المشهد، حتى يصبحوا مجرد أسماء في أرشيف “شكراً على خدماتك”.
المعادلة واضحة: المؤسسات الدستورية التي يُفترض أن تُمثل ضمير الدولة، تصبح عبئًا حين تجرؤ على الحديث عن الفساد، عن تهميش الشباب، عن الميزانيات الضخمة التي لا يعرف المواطن أين تذهب. يكفي أن تُصدر تقريرًا واحدًا يُربك التوازنات، حتى تتحول إلى مؤسسة غير مُرحب بها، لا بالهجوم المباشر، ولكن بالتجاهل والتهميش، إلى أن تصبح بلا تأثير.
أما من يُتقن فن الحذر، ويكتب بلغة رمادية، ويراعي “خصوصية المرحلة”، فله فرصة الاستمرار وربما الترقية. هنا، الصمت ليس ضعفًا، بل استراتيجية مدروسة تُكافأ في دهاليز السياسة.
الحزب الذي يقود التحالف الحكومي اليوم، يدرك أن معركة البقاء لا تُحسم فقط في صناديق الاقتراع، بل في ضبط إيقاع المؤسسات الرقابية. لذلك، بدأ العمل منذ الآن: إبعاد الأسماء “المزعجة”، وإحلال أخرى أكثر “انسجامًا”، لأن الصمت في هذه المرحلة ليس مجرد خيار، بل شرط أساسي للعبور نحو ولاية ثانية.
السياسة اليوم ليست شعارات، بل توزيع متقن للأدوار. ليست تنافسًا ديمقراطيًا بقدر ما هي هندسة دقيقة لمراكز القوة داخل المؤسسات، التي إذا نطقت بالحقيقة، قد تُفسد الحملة قبل أن تبدأ. لهذا، لا مجال للارتجال، ولا مكان للأصوات الحرة، إلا في صفوف المتفرجين.
لكن ما يغيب عن البعض، أن التاريخ لا يخلّد المناصب، بل المواقف. وأن المؤسسات، في جوهرها، ليست مجرد مرايا للحكومة، بل ركائز للتوازن والرقابة. وحين يتم إقصاء الصوت المخالف، فهذا لا يعكس قوة السلطة، بل ضيق أفقها. فالتنوع، مهما بدا مربكًا، هو الضمان الحقيقي لثقة المواطنين في البناء المؤسساتي.
نحن اليوم أمام فرز ناعم، حيث الإقصاء لا يكون بالصوت العالي، بل بتقرير رسمي، أو بقرار إداري، أو بعبارة مهذبة: “شكرًا على خدماتك”. ولكن، من يعتقد أن هذه المعادلة ستدوم، لم يفهم بعد أن السياسة ليست ملعبًا مغلقًا، وأن من يُهمّش اليوم قد يعود غدًا، بصوت أعلى وأكثر تأثيرًا.