أزمة العمل الثقافي بين الرقمنة و سياسة التدجين
بقلم: برحايل عبد اللطيف.
في ظل التحولات الجذرية التي تشهدها المجتمعات العربية والعالمية، يطفو على السطح سؤال مُلحّ عن مصير العمل الثقافي، ذلك الركيزة الأساسية لبناء الهوية وتنمية الوعي الجمعي. فالثقافة، بوصفها جسراً بين الماضي والحاضر، ووعاءً للإبداع والفكر، تواجه اليوم تحديات غير مسبوقة تهدد بتراجع دورها، بل وانحسارها في بعض السياقات. فما أسباب هذا التراجع؟ وما انعكاساته على حاضرنا ومستقبلنا؟
مظاهر التراجع: بين التهميش والانزياح الرقمي**
لم يعد العمل الثقافي يحتل الأولوية التي كان عليها في العقود الماضية. فالمسرحيات تتراجع جماهيرياً، والمعارض الفنية تكافح من أجل البقاء، والمؤسسات الثقافية تُغلق أبوابها بسبب نقص التمويل أو ضعف الدعم الرسمي. حتى الكتب، التي كانت تُعدّ رفيقاً للنهضة الفكرية، تواجه منافسة شرسة من المنصات الرقمية السريعة التي حوّلت الثقافة من فعل تأملي إلى سلعة استهلاكية عابرة.
في العالم العربي، تتفاقم الأزمة بسبب الظروف السياسية والاقتصادية الهشة. فالحروب والنزاعات دمّرت البنى التحتية الثقافية، كما في سوريا واليمن وليبيا، بينما حوّلت الأزمات المالية الثقافة إلى ترفٍ غير مُلحّ في دولٍ تعاني من انهيار العملات وارتفاع البطالة.
جذور الأزمة: من التمويل إلى التحولات المجتمعية**
1. **التمويل المفقود**: تخلت الحكومات عن دعم المشاريع الثقافية لصالح أولويات أخرى، مثل البنية التحتية أو الأمن، في حين فشل القطاع الخاص في تبني دور فاعل بسبب غياب الحوافز أو الرؤية الاستثمارية الطويلة المدى.
2. **الانزياح نحو الرقمنة**: رغم إيجابيات التكنولوجيا، إلا أنها شجّعت على ثقافة “السريع والسطحية”، حيث حلّت المقاطع المصورة مكان الروايات، وأصبح الإعجاب (Like) بديلاً عن النقد البنّاء.
التهميش السياسي**: في بعض الأنظمة، يُنظر إلى النشاط الثقافي النقدي كتهديد للاستقرار، مما يؤدي إلى تضييق الخناق على المبدعين أو توجيه الثقافة لخدمة خطاب رسمي مُنمّط.
انقسام الهوية**: صراع الهويات بين الأصالة والحداثة، أو بين الديني والعلماني، خلق فجوةً في الخطاب الثقافي، جعلته عاجزاً عن مخاطبة شرائح واسعة من المجتمع.
العواقب: مجتمعات بلا ذاكرة**
لا يقتصر تراجع العمل الثقافي على فقدان الفرص الإبداعية، بل يمتد إلى تفكيك البنى الاجتماعية. فالثقافة هي التي تُشكّل الهوية المشتركة، وتُعزّز التسامح، وتصنع حصانةً ضد التطرف. بدونها، تتحول المجتمعات إلى كيانات هشّة، عرضة للاستقطاب والانقسام. كما أن إهمال الثقافة يُعمّق الفجوة بين الأجيال، حيث يفقد الشباب صلتهم بتراثهم، بينما يعجز الكبار عن فهم تحولات العصر.
هل من أمل؟ نحو استراتيجيات للإنقاذ**
لا يزال الأمل قائماً بإعادة إحياء العمل الثقافي، عبر خطوات عملية، منها:
تعزيز الشراكة بين القطاعين العام والخاص**: بإنشاء صندوق دعم ثقافي مستدام، وتشجيع الرعاية الخاصة عبر إعفاءات ضريبية.
دمج الثقافة في التعليم**: إعادة الاعتبار للمناهج الفنية والأدبية، وتنمية الذائقة النقدية لدى الطلاب منذ الصغر.
توظيف الرقمنة بشكل إيجابي**: تحويل المنصات الرقمية إلى فضاءات للحوار الثقافي الجاد، ودعم المشاريع الإبداعية الهادفة.
حماية المبدعين**: عبر قوانين تضمن حرية التعبير، وتؤمن لهم الحماية الاجتماعية والاقتصادية.
خاتمة: يجب أن نذكر أن الثقافة ليست مجرد فعاليات فنية، بل هي الضامن لاستمرار روح الأمم. إن إنقاذها من التراجع مسؤولية جماعية، تبدأ بإعادة الاعتبار لدور المثقف، وتحويل الثقافة إلى مشروع مجتمعي يومي، لا يُختزل في المتاحف أو المهرجانات، بل يعيش في المدارس، والشوارع، وقلوب الناس.
*برحايل عبد اللطيف – باحث في الشؤون الثقافية*