ثورة الملك والشعب أم مسيرات مملكة مستدامة:
بقلم المراسل الصحفي عبد العزيز الكواطري.
ا- ثورة الملك والشعب لحمة مباشرة:
ثورة الملك والشعب ليس مجرد شعار جاء كردة فعل ضد الاستعمار الفرنسي، بل ملحمة ولحمة وطنية خالدة والتحام بين شعب اختار نظامه السياسي وآمن به ودافع عنه بالغالي والنفيس، فمنذ انطلاق تلك الثورة العظيمة واللبنة الأولى في مسيرة وطن حيث كانت الشرارة الأولى ليلة عيد الأضحى 20 غشت 1953، فما إن أجبرت القوة الاستعمارية الفرنسية الملك محمد الخامس على مغادرة المغرب، وتم نفيه إلى جزيرة كورسيكا التابعة لدولة فرنسا، ثم قامت السلطات الفرنسية بنفيه إلى مدغشقر في يناير عام 1955م، حتى تفاجأ المستعمر الفرنسي بعمق تعلق والاحترام الذي يكنه الشعب المغربي لسلطانهم، فبعد محاولة تصفية مفتش الشرطة «المسكيني» واغتيال بعض أذرع الاستعمار، فأصبح المستعمر والخونة يعيشون حالة توجس ورعب، ففي 7 نونبر 1953 قام كل من بونعيلات ومنصور والسكوري بتفجير قطار «كازا ألجي» الذي كان يُقل الجنود الفرنسيين، وفي 11 شتنبر 1953م، حاول الشهيد علال بن عبد الله اغتيال محمد بن عرفة، حيث كان الأخير ملكاً للمغرب فرضته فرنسا على الشعب المغربي، وفي 24 دجنبر 1953م، الذي يصادف ليلة عيد الميلاد المجيد، قام أحد رموز المقاومة المغربية الشهيد محمد الزرقطوني بتفجير مارشي سونطرال (السوق المركزي) بالإضافة عمليات مقاومين ومجاهدين آخرين في مختلف جهات المغرب حيت قام الشهيد أحمد الحنصالي باعتراض سيارة يركبها أربعة من الفرنسيين وقام بقتلهم واستمر في أعماله الفدائية واستطاع قتل العديد من حراس الأمن والمتعاونين معهم إلى غاية القبض عليه من طرف السلطات الفرنسية وإعدامه رميا بالرصاص في 26 نونبر 1953فمثل هذه الثورة المجيدة لم تكن تحتاج إلى تعبئة بل هي انبثاق مباشر من رحم الشعب، وبكل عفوية وتطوعية من جميع أطياف المجتمع لكن هذه الانبثاق العفوي المباشر لم يسلم من جيوب مقاومة من بعض المستفيدين من الحقبة الاستعمارية الذين حاولوا بكل تلويناتهم تحويل الثورة إلى مجرد شعار.
ب- محاولة بعض النخب المستفيدة من الحقبة الاستعمارية اختطاف ثورة الملك والشعب:
كانت أساليبهم تفضحهم فحاولوا استنساخ أساليب الاستعمار في التعامل مع المواطنين بالعنف والتعذيب مختفين خلف ردود أفعال منها ما كان محركه الأساسي والأول هو الأساليب التي انتهجها بعض الذين استهوتهم أساليب الاستعمار وتنكيله، فظلوا على نهجه مستفيدين من وضعهم الاعتباري ومراكزهم في السلطة الاستعماري الراحلة مختصرين الثورة في شعار لا غير، ومنها ما كان محركه ولاءات للاستعمار لابسة قبعة الشعب والنضال والمبادئ محاولا بشكل حربائي تفريغ ثورة الملك والشعب من الداخل بتهريبها وتفكيكها محاولا خلق وضع لا أحد من المواطنين المغاربة يؤمن به، فاختصر في أحداث من انقلابات أو حمل السلاح ضد الوطن وفئة ثالثة كانت مشدودة إلى حركة ضد تيار الشعب ورغم حسن نياتها بردود الفعل المباشرة وضياع الأمل وخطو الارتجالي الذي كانت وراء تكريسه النخب العميلة أو النخب التي لها مصلحة في تكريس الإرث الاستعماري ذاته وبظلم من ذوي القربى الذي هو أشد مضاضة، إن الثورة المباشرة كان من اللازم جعلها علما يدرس للأجيال ولا يظل حدوسا صوفية يعيش عليها بشكل حدسي من اكتوى من أساليب الاستعمار، ولم تمتد إليه بشكل استثنائي أولم يصطدم مع النخب الموروثة التي يصعب تمحيصها والتعامل معها بكبح جماحها المنفلتة ولاسيما وهي مختبئة بالمؤسسات الوطنية الفتية للملكة الشريفة، وقد تنبه المغاربة ملكا وشعبا لهذا الوضع فجاءت نقلة عالمة تحسب في مسار محطات المسيرات الكبرى للمملكة وذلك بتأسيس جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية الفتية:
ج- ثورة الملك والشعب من الحدوس المباشرة إلى الترسيخ العلمي:
إن تأسيس جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية الذي اشتهر باسم «» FDIC، منذ 20 مارس 1963، وفي العقد الأول من ثورة الملك والشعب ليظهر مدى يقظة الملك والوطنين للمكائد والدسائس التي يحيكها المستفيدون بشتى قبعاتهم من الخيانة إلى المصلحة الشخصية، حيث عقد أحمد رضا كديرة، المدير العام للديوان الملكي، ندوة صحفية موضحا فيها أن الغاية من تأسيس هذه الجبهة هي تجنيد جميع قوى البلاد وراء الملك وصيانة الدستور وإحداث ديمقراطية حقيقة وحماية القيم والمثل العليا التي أقرها الشعب من خلال الدستور. الأمر الذي سمح لأحزاب الحركة الشعبية وحزب الشورى، ليجعل منها مكونات سياسية في صف القصر، يعتبر هذا المولود مختبرا تجريبيا لتجسيد ثورة الملك والشعب وإخراجها من المباشرية والحدوس العاطفية إلى المؤسسات وبشكل علمي، لكن انحسارها في المختبر وعدم تطويرها في حينه لتمتد إلى المجتمع ككل والابتعاد بها عن تجاذبت ردود الفعل بين النخب وجعله مشروعا اجتماعيا تعبويا مستمرا ينزل فيئه إلى الطبقات الشعبية التي هي وقود ثورة الملك والشعب وخزانها، فالاصطفاف والتصنيف الصارم وفي استمرار العملة القديمة من النافذين القدامى وأصحاب المصالح الذين يصطادون في الماء العاكر جعل التنزيل العلمي لثورة الملك والشعب وإن كان ذو إرهاصات علمية حقيقية تحافظ على مكتسبات الثورة وتتغلب على الصعوبات التي كانت عند المبتدأ أو التي استحدثت بفعل فاعل متواطئ مع الاستعمار ومن جنده الخفي أو فاعل مريض تربى في حضن الاستعمار وإن تمرد عليه طوعا أو كرها تحت مبادئ ثورة الملك والشعب فهو الشخص الذي ذهب بكل شذوذه إلى شخصنة المؤسسة وتوظيفها لنزوعه الاستعماري المريض فكان ثمن غال على الوطن وعلى مبادئ ثورة هي أم المسيرات واحتكمت الأطراف المتصارعة للفعل ورد الفعل العنيف، فكانت العملة هي سنوات الرصاص التي بالغت في ردود الأفعال سواء من ذوي النيات الحسنة من الوطنين أو من ذوي النيات السيئة الذين ركبوا الموجة لتسميم أجواء اللحمة الوطنية، لكن لا يعدم رجاحة العقل عند أنس مشبعين بالوطنية مؤمنين بثورتهم، فجاءت مرحلة الانصاف والمصالحة ومن النسيج الحقوقي لتعيد المياه لمجاريه وتنهي الشعاراتية وتجسد علمية ثورة الملك والشعب كمشروع مجتمعي واعد ينبئ بعصر المملكة النموذج والمثال.
د- الانصاف والمصالحة على درب علمية تنزيل ثورة الملك والشعب:
نُصِّب أعضاء هيئة الإنصاف والمصالحة -التي يوجد مقرها في الرباط– يوم 7 يناير/كانون الثاني 2004 من طرف الملك محمد السادس بمدينة أكادير، في سياق مسلسل للانفتاح الحقوقي يتبنى مطالب الكشف عن حقيقة الانتهاكات الجسيمة عبر تسليط الضوء على مصير ضحايا الإخفاء القسري وتعويض الضحايا أو ذويهم وتحقيق الإنصاف والمصالحة.
إعلان
طبيعة الهيئة وتركيبتها
تعتبر هيئة الإنصاف والمصالحة لجنة وطنية للحقيقة والإنصاف والمصالحة، ذات اختصاصات غير قضائية في مجال تسوية ملف ماضي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان. يغطي نطاق اختصاصها فترة زمنية طويلة من 1956 -تاريخ استقلال المغرب- إلى 1999.
تتكون من رئيس و16 عضوا، نصفهم من أعضاء المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان، والنصف الآخر يمثلون تجارب وتخصصات متنوعة يجمعها الاهتمام بحماية حقوق الإنسان. ترأسها الحقوقي الراحل إدريس بنزكري، وجاء بعده الناشط الحقوقي أحمد حرزني.
انتظم أعضاء الهيئة، ضمن ثلاثة فرق عمل، الأول مكلف بالتحريات والثاني مكلف بجبر الأضرار، وفريق ثالث مكلف بالأبحاث والدراسات.
وكانت هذه الصفحة مشرقة في تاريخ المملكة المغربية حافرة في عمق الوجدان الجمعي للشعب المغربي من الربط بين ماضيه وحاضره ومستقبله فلم يعد الماضي محصورا ما بين حقبة ما قبل الانصاف والمصالحة أي من الاستقلال عن الاستعمار إلى 1999 بإنشاء هيئة الانصاف والمصالحة، بل تعداه ليمتد إلى التاريخ الضارب في قدم المملكة المغربية كثاني أقدم مملكة في العالم وأول أقدم مملكة في العالم العربي الإسلامي.
العبرة من مرحلة الانصاف والمصالحة:
تم الحسم الاعتباري بالفصل بين الجلاد والضحية بحيث سقط الجلاد سقوطه المدوي وجرد من الاختباء خلف تبريرات الاستئثار بوطنية لم يخدمها بل خذلها بما وثق ضده من انتهاك لحقوق الضحية التي نالت شرف الوطنية وأنها صاحبة وطنية غير منقوصة كما كان الجلاد يوهم نفسه أولا والمجتمع، فلا يصدق الجلاد كيف تحول في النهاية هو أيضا إلى ضحية… فيصاب بالذعر والخرف وبالجنون.. ويموت وحيدا ويندم حيث لا ينفعه ندم من غير تعاطف من أحد حتى من ذويه وأقرب الناس إليه يبتعدون عن ربط صلتهم به، ولا تكون رحماتهم عليه إلا زفرات حسرة وشفقة تدينه أكثر مما تتعاطف معه.
ثورة الملك والشعب ومسيرة ترسيخ دولة المؤسسات:
كما أن هذا المشروع يعد كذلك، “بلورة على أرض الواقع لتوصيات هيئة الإنصاف والمصالحة، وانخراطا فعليا للمغرب في العدالة الانتقالية التي تروم تكريس مغرب حداثي وديمقراطي يعتز بماضيه وحاضره ومستقبله”، بحسب كريمي.
هنا لا بد من التأكيد على المرجعية السامية لهذا الانتقال الذي يجعل المملكة المغربية من بين أول الدول السائرة في طريق النمو تكرس دولة المؤسسات، فتخطو هذه الخطوة كواقع لم يصل إليه حتى حلم كثير بل الغالبية العظمة من دول الجنوب حيث يقول صاحب الجلالة الملك محمد السادس في خطابه خلال حفل تنصيب أعضاء الهيئة العليا للحوار الوطني حول إصلاح منظومة العدالة
“يطيب لنا أن نتولى تنصيب أعضاء الهيئة العليا للحوار الوطني حول الإصلاح العميق والشامل لمنظومة العدالة. وقد أبينا إلا أن نضفي رعايتنا السامية على هذا الحوار اعتبارا للعناية الفائقة التي ما فتئنا نوليها لهذا الإصلاح الجوهري الذي جعلناه في صدارة الأوراش الإصلاحية الكبرى التي نقودها٬ إيمانا منا بأن العدل هو قوام دولة الحق والمؤسسات وسيادة القانون التي نحن لها ضامنون وتحفيز الاستثمار والتنمية التي نحن على تحقيقها عاملون. وقد سبق لنا في خطاب العرش لسنة 2008 أن دعونا لحوار واسع لبلورة مخطط مضبوط للإصلاح العميق للقضاء. كما حددنا المحاور الأساسية لهذا الإصلاح في خطابنا الموجه للأمة في 20 غشت 2009. وقد حرصنا على تتويج هذا المسار الإصلاحي بمقتضيات الدستور الجديد للمملكة التي تنص على ضمان الملك لاستقلال القضاء وتكرس القضاء كسلطة مستقلة قائمة الذات عن السلطتين التشريعية والتنفيذية٬ وإحداث المجلس الأعلى للسلطة القضائية كمؤسسة دستورية برئاستنا وبالنص على حقوق المتقاضين وقواعد سير العدالة ودور القضاء في حماية حقوق الأشخاص والجماعات وحرياتهم. تلكم هي المرجعيات الأساسية لهذا الحوار الوطني الذي نريده مناسبة لتأكيد تشبث المغاربة بالنموذج الديمقراطي التنموي المغربي المتميز.”
ومن مضامين هذا الخطاب السامي نستشف مدى الانخراط المجتمعي الملتحم بثورة لا تنتهي” ثورة الملك والشعب” أم الثورات التي بنت أوراشها الكبرى على ترسيخ المؤسسات وجعل مؤسسات العدل وإصلاح القضاء هي مرجع كل المؤسسات فقوامة المؤسسات هي القضاء النزيه والعادل فمؤسسات جذرها القضاء الذي هو أب المؤسسات، وجذعها المتين هو التعليم الذي هو وبحق وحقيق هو أم المؤسسات وفروعها باقي المؤسسات…