شريعة الغاب
الاستاذ برحايل عبد العزيز.
مع ترامب، دخل العالم عمليًا مرحلة نهاية العولمة. العولمة لم تعد ثقافية، بل كانت تجارية واقتصادية، واليوم كل دولة أو اتحاد دول سيكون عليه أن يتدبر أمره بمفرده، دون تعويل على السوق الأمريكية.
اليوم، يفكر الاتحاد الأوروبي في تطوير بنيته التحتية لتعويض خسارة السوق الأمريكية، ويبحث الصينيون في آسيا عن يد تجارية بديلة. نهاية العولمة لا تقتصر على التجارة والاقتصاد، بل تمتد إلى كل ما نالهم اشتياق العودة إلى الحمائية كالقومية والانعزال.
فرنسا، على سبيل المثال، شهدت حديثًا من مجلس الدولة يكرّس حق أي سلطة قضائية إدارية مستقبلية في تعليق شبكات التواصل الاجتماعي، شرط الحاجة إلى سند قانوني صريح، إذا رأت في ذلك ضرورة لمواجهة أحداث بالغة الخطورة.
سمعنا عن خروج الفرنسيين في احتجاجات ضد هذا القرار، وهو ما لم نكن نسمعه حتى في بعض الدول العربية ذات الأنظمة العسكرية.
أما أمريكا، فقد عوّضت المؤسسات بما يُعرف سابقًا بـ”نيويورك تايمز”، والتي نشرت تقريرًا كارثيًا يشير إلى أن وزير الخارجية ماركو روبيو أمر الدبلوماسيين الأمريكيين بتفتيش رسائل الطلاب على منصات التواصل الاجتماعي قبل منحهم التأشيرات.
ويأتي هذا القرار في الوقت الذي يوسّع فيه الرئيس ترامب من جهود الترحيل، بما في ذلك ترحيل الطلاب الذين تحدثوا دعمًا للفلسطينيين خلال الإبادة الإسرائيلية في غزة. يشبه هذا ما حدث في خمسينيات القرن الماضي، عندما كانت السلطات الأمريكية تطبق قوانين جوزيف مكارثي التي كانت تنبني على اتهامات بالخيانة والتآمر دون تقديم أدلة، وكانت التهم حينها متعلقة بالشيوعية، أما اليوم فالتهمة هي دعم فلسطين.
ومع كل ما يحدث، يجوز لنا أن نتساءل: هل بقي هناك شيء يُسمى القانون الدولي أو النظام الدولي أو حتى الجمارك الحية؟
نحن نرى كيف يصر ترامب على مطالبة دولة ذات سيادة، مثل كندا، بالانضمام إلى الولايات المتحدة. هل هناك من لا يزال يصدق بوجود الأمم المتحدة أو المحكمة الجنائية الدولية أو منظمة الصحة العالمية أو منظمة التجارة العالمية؟
نرى كيف يطالب ترامب بجزيرة، ويخيّر أوكرانيا بين منحه معادنها أو تركها لقمة سائغة للدب الروسي. هل بقي هناك بلد آمن داخل حدوده بعدما رأينا كيف تُقسّم الإمبراطوريات خريطة العالم بالشوكة والسكين؟
لقد دخلنا حقبة قانون الغاب الدولي، حيث يلتهم الأقوياء الضعفاء بلا رحمة أو خجل. وها هو ترامب يعلن أن أردوغان حصل على سوريا، وأنه سلّمه تهنئة على ذلك.
وليس أمام دول العالم الثالث سوى الاختيار بين الوقوع فريسة بين مخالب الاستعمار الأمريكي، أو الإمبريالية الأوروبية، أو الاستعمار الروسي. أما الدول العربية “المحظوظة”، مثل سوريا ولبنان، فقد تجد نفسها أمام خيار العودة إلى الحكم العثماني والدخول تحت عباءة تاجر البازار التركي.
في هذا كله، لم يعد للغرب ما يقدمه للعالم من دروس، لا بإعلامه ولا بمنظماته. فقد كشفت المجازر في غزة عن الوجه البشع لهذا الغرب، الذي ظل يتلفع بعباءة الشعارات البراقة حول الحرية والعدالة والأخوة.
لقد وقّع الغرب على سقوطه الأخلاقي السريع بانحيازه اللامشروط إلى جانب الاحتلال، حتى بتنا نسمع رئيس دولة إسرائيل، التي يعتبرها الغرب “الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط”، يصف سكان غزة بالحيوانات، مبرّرًا إبادتهم، دون أن يحرك ذلك أي ردة فعل، حتى من المدافعين عن حقوق الحيوانات.
صرنا نسمع في بلاطوهات التلفزيون الفرنسي دعوات لإعادة استعمار شعوب إفريقيا عقابًا لهم على مطالبتهم برحيل القواعد العسكرية الفرنسية عن أراضيهم.
عندما تسقط مساحيق الإنسانية المصطنعة، الناتجة عن نترات الرخاء الاقتصادي الذي ساد في الغرب، يظهر الوجه الحقيقي لهذا الغرب المتوحش، الذي أكل بعضه بعضًا في حروب دينية لا تبقي ولا تذر.
وليس من المستغرب أن أكثر الحروب دموية ووحشية في التاريخ كانت تلك التي عاشتها أوروبا وأمريكا. لكن يبدو أن ذاكرة الأوروبيين والأمريكيين قصيرة، أو أنهم يتعاملون مع التاريخ كقائمة طعام: يأخذون منه ما يفتح شهيتهم، ويزدَرون ما لا يروق لهم.